العنف في شوارعنا: قراءة سوسيونفسية في أزمة المعنى والثقة

04 October 2025 - 13:32

بقلم : سعاد السبع

تشهد شوارع بلادنا بين الحين والآخر مشاهد عنف وشغب تُربك الطمأنينة العامة وتثير الكثير من التساؤلات حول خلفياتها وأسبابها. ليست هذه الحوادث مجرد خروقات أمنية أو نزعات تخريبية، بل هي في العمق تعبير عن تصدعات نفسية واجتماعية تعكس أزمة أجيال بأكملها في علاقتها بذاتها، بمؤسساتها وبأفق المستقبل.

إن العنف كما يرى علماء النفس الاجتماعي لا يولد من فراغ. إنه صرخة مشروخة ولغة بديلة حين يُغلق باب الحوار، وحين يعجز الأفراد عن التعبير بالكلمات. فكل حجر يُقذف في الشارع، وكل ممتلكات تُخرب، ليست إلا رمزا لخيبات متراكمة وشعور بالاغتراب وفقدان الأمل.

العنف كلغة غير مكتملة

يرى علم النفس المجتمعي أن العنف في جوهره “رسالة يائسة” تنبثق حين يعجز المجتمع عن توفير قنوات للتعبير السلمي. هنا يتحول الجسد إلى أداة احتجاج، والحركة إلى وسيلة كلامية بديلة. ومن منظور التحليل النفسي يمكن القول إن الشغب هو تفريغ لطاقة عدوانية لم تجد مسارا شرعيا للتحقق فتخرج في شكل انفلات جماعي.

ابن خلدون في مقدمته حذّر من أن “الظلم مؤذن بخراب العمران”. وهو تحذير ينطبق على واقعنا المعاصر حين يشعر الشباب باللاعدالة، حين يُهمَّش صوتهم يتحول الانتماء إلى عبء والشارع إلى مسرح لعرض غضبهم.

أزمة الثقة والمعنى

لا يمكن فصل هذه الظواهر عن أزمة الثقة المتفاقمة بين المواطن ومؤسساته. فقد أظهرت دراسات علمية أن انعدام الثقة يولّد شعورا بالاغتراب النفسي والاجتماعي يدفع الفرد إلى البحث عن بدائل حتى لو كانت مدمرة. إن غياب “المعنى” أي الشعور بأن الحياة تملك غاية وأن المستقبل مفتوح يؤدي إلى تفريغ العنف كتعويض عن الفراغ.

يوضح عالم الاجتماع زيغمونت باومان أن “المجتمعات حين تفقد أفقا مشتركا تتحول إلى جزر معزولة يبحث كل فرد فيها عن خلاصه الفردي، وغالبا بوسائل عنيفة أو متطرفة”.

الأسباب المركبة: من الاجتماعي إلى النفسي

لفهم الظاهرة بعمق لا بد من النظر إليها كمحصلة لعوامل متشابكة:

* اجتماعيا: الهشاشة الاقتصادية، البطالة وغياب العدالة الاجتماعية تزرع بذور السخط.
* نفسيا: ضغوط المراهقة والشباب، الحاجة للاعتراف والهوية والشعور بالدونية أمام انسداد الأفق.
* ثقافيا: ضعف التربية على القيم المشتركة وتراجع دور الأسرة والمدرسة والإعلام في بناء وعي نقدي.
* سياسيا: محدودية المشاركة في القرار وغياب قنوات حقيقية تسمح للشباب بالتعبير المشروع.

العنف إذن ليس نتاج عامل واحد، بل نتيجة تفاعل معقد بين النفسي والاجتماعي، بين ما يعيشه الفرد داخليا وما يواجهه خارجيا.

من الانفلات إلى البناء: مقاربة التحويل

التحدي الأكبر أمام المجتمع والدولة معا هو كيفية تحويل هذه الطاقات المهدورة في العنف إلى طاقات بنّاءة.
الحلول ليست أمنية فقط بل وقائية وبنيوية:

* ثقافيا: دعم المبادرات الفنية والإبداعية التي تمنح الشباب فضاءات رمزية للتعبير.
* رياضيا: إنشاء أندية وبرامج جماعية تستوعب الطاقات الحركية وتوجهها بشكل إيجابي.
* تربويا: إدماج التربية على الحوار، المهارات الحياتية وقيم التسامح في المناهج الدراسية.
* اجتماعيا: الاستثمار في العدالة الاجتماعية وإيجاد آليات إنصاف حقيقية.
* نفسيا: توفير مراكز للدعم النفسي المجتمعي تعالج الأزمات قبل أن تنفجر.

من العنف إلى الحوار: التحدي الفلسفي

إن ما نراه في الشوارع اليوم يضعنا أمام سؤال فلسفي عميق: كيف يمكن للمجتمع أن يوازن بين الحرية والنظام، بين التعبير والانضباط؟.
فالعنف ليس قدرا محتوما بل هو نداء ينتظر الإصغاء. وهنا يمكن استحضار مقولة الفيلسوف هابرماس: “المجتمع الذي لا يُؤسس للحوار يفتح الباب أمام العنف كبديل.”

من جرس الإنذار إلى فرصة الإصلاح

ليست أحداث الشغب مجرد صور عابرة على الشاشات، بل هي جرس إنذار يدعونا إلى إعادة التفكير في علاقتنا بشبابنا، وفي طرقنا في التربية، في الإعلام وفي العدالة الاجتماعية. فالأوطان لا تُبنى بجدران الأمن وحدها، بل تُصان بجدران القيم وجسور الثقة.

إن الاستجابة الحقيقية لهذه الظواهر لا تكون بتجاهلها أو بتبريرها، بل بتحويلها إلى فرصة لإعادة بناء العقد الاجتماعي، بحيث يشعر كل مواطن أن الوطن يتسع لأحلامه، لا أن يضيق به حتى يدفعه إلى الانفجار.

شارك المقال

شارك برأيك

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *